فلسطين أون لاين

مصير مجهول يرهق قلوب ذويهم ..

تقرير مفقودون لم يعودوا من "مصائد الموت"... لا قبر ولا خبر

...
مفقودون لم يعودوا من "مصائد الموت"... لا قبر ولا خبر
غزة/ يحيى اليعقوبي:

"قبلها بيوم ما كانش في بيتي أي شيء".. ما قالته زوجة ضياء فيصل صيام (45 عامًا)، هو ما أجبره على التوجه إلى مركز توزيع المساعدات بمحافظة رفح جنوب قطاع غزة، صباح الخميس الماضي الموافق 29 مايو/ أيار 2025، مصطحبًا طفله محمد (12 عامًا). في تلك اللحظة وعد أطفاله الثلاثة الآخرين أن يعود "بما يسد رمق الجوع"، لكنه لم يعد.

توجه صيام نحو طريق ميراج، ويومها وصل لعائلته خبر بفتح نقطة مساعدات تديرها مؤسسة أمريكية في تلك المنطقة. رافقه أحد جيرانه، ومع مرور الساعات دون عودته ظهر اليوم ذاته، بدأ القلق يزحف إلى قلب زوجته، التي بدأت بالاتصال على أشقاء زوجها وشقيقاته واحدًا تلو الآخر، لتصل إلى قناعة بحدوث شيءٍ أخّره عن القدوم.

بصوت مليء بالقهر والحسرة، تحكي زوجته لصحيفة "فلسطين": "بعد العصر توجهت لمشفى ناصر، وبحثت بين سجلات المصابين والشهداء فلم أجده، تجولت في كل الأقسام على أمل أن يكون فيها، وفي اليوم الثاني عدت مجددًا وانتظرت طويلًا ولم أجدهم، وأبلغت عن فقدانهم".

لم يعد لأطفاله

منذ ستة أيام، يكتوي قلب زوجته بنيران الغياب. توجهت إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر دون أن تصل إلى أي معلومة تبرد قلبها وقلوب أطفالها الثلاثة. تقول بقلب يثقله الغياب المجهول: "ما كانش عنا أي شيء نأكله قبل بيوم، وقال لي إنه رايح لمركز المساعدات. كان مترددًا وخايف يصير شيء، لكنه قال لي: (أنا خايف أروح.. بس الأولاد كاسرين ظهري، ما فيش حاجة عنا!)".

وعن مركز توزيع المساعدات الذي فُقد فيه زوجها، أضافت بنبرات غضب: "أعطوا الناس أمان أول يوم، وطلع استدراج للموت. كل يوم في عشرات الشهداء. كل ثانية بتمر مرهقة بدون معرفة مصيرهم. ولو رجعوا، ما رح أرسلهم هناك حتى لو متنا من الجوع".

photo_2025-06-05_16-24-53 (2).jpg
 

ما يمنحها بعض الأمل هو ما قاله جيرانهم، إنهم تواصلوا مع مصادر في الصليب الأحمر وأُبلغوا أن طفلها المعتقل لدى جيش الاحتلال، وتوضح: "جارنا في مخيم الإيواء اسمه عبد المعين حرز الله، وهو من رافق زوجي وابني، وأتمنى يكونوا مع بعض".

أما والده، فيصل صيام، فإلى جانب فقدان آثار نجله وحفيده، فقد استُشهد شقيقه نضال أثناء محاولته الحصول على طرد غذائي من مركز المساعدات في رفح، تاركًا خلفه ستة أبناء. يقول لصحيفة "فلسطين": "وقعت عليّ مصيبتان. أخي أحضرنا جثمانه ودفناه، أما ابني فلم نعرف إن كان معتقلًا أم شهيدًا. ما يقلقني أنه لو استُشهد، قد يكون ملقى على الطريق لتأكله الكلاب الضالة، وفي هذه الحالة أريد مواراته الثرى".

تركوه ينزف

في حادثة فقد أخرى، دفع توجه العائلات والشبان والأطفال من مخيم البريج وسط القطاع إلى مركز المساعدات قرب جسر وادي غزة بمحور نيتساريم، الشاب عبد الله المغاري (37 عامًا)، والذي يعاني من ضمور في الدماغ ونوبات تشنج، إلى الانضمام للحشود الخميس الماضي الموافق 29 مايو/ أيار.

photo_2025-06-05_16-24-53 (4).jpg
 

مع توافد الآلاف، أطلقت ثلاث دبابات إسرائيلية النار بكثافة تجاههم، ما أدى لإصابة الفتى عبيدة أبو موسى (16 عامًا) برصاصة في بطنه، وإصابة المغاري بذراعه، لكنه رفض ترك جاره الفتى وحيدًا، وحاول حمله بمساعدة شاب آخر. ومع اشتداد الألم عليه، طلب من الشاب أن يتركهم ويبلغ عائلته أنه بقي مع الفتى ولم يتركه.

في تلك اللحظة، كان المصوّر فضل المغاري يوثّق مشاهد الزحام، حين تلقى اتصالًا بإصابة شقيقه عبد الله. لم يستطع الوصول إليه بسبب تدافع الناس والغبار وكثافة إطلاق النار. يقول لصحيفة "فلسطين": "حاولت التقدم للأمام، لكن المدفعية والرصاص منعتني. بحثت عنه بين الناس ولم أجده".

ويتابع: "أخي يعاني من ضمور دماغي، إدراكه مثل طفل بعمر عشر سنوات. سار خلف الناس واصطف معهم دون أن نعرف. وعندما أُصيب مع عبيدة، رفض تركه. الشاب الذي حاول مساعدتهما تركهما مع استمرار إطلاق النار وتقدم الدبابات، ثم أخبرنا بتفاصيل ما حدث".

ويضيف: "لا نعرف إن كان جيش الاحتلال أخذهم أم تُركوا في المكان. تواصلنا مع الصليب الأحمر ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، وأُجري تنسيق لعشر مرات للتوجه إلى الموقع الذي فُقد فيه أخي والفتى، لكن جيش الاحتلال رفض".

ووفق شهود عيان، أعطى عنصر من الشركة الأمريكية إشارة انسحاب لعناصر الشركة، وإشارة استدعاء لقوات الاحتلال، فتقدمت ثلاث دبابات من ثلاث اتجاهات، ومعها طائرة مسيّرة (كواد كابتر) وأطلقت نيرانًا كثيفة على المحتشدين، وأُصيب أخوه والفتى.

أب ينتظر عودة نجله

منذ ستة أيام، لم يفارق الحاج جبر أبو موسى مدخل النصيرات. في كل يوم يحاول الوصول إلى النقطة التي فُقدت فيها آثار نجله عبيدة (16 عامًا). منذ لحظة إصابته، حمل الأب قطعة قماش بيضاء وتوجه إلى هناك، لكن دبابة إسرائيلية أطلقت النار عليه وأسقطت طائرة مسيّرة قنبلة باتجاهه، فاضطر للتراجع.

يروي لصحيفة "فلسطين" ودموعه تنساب بحرقة: "كل وقتي أقضيه عند المدخل. لولا أولادي يرجعوني للبيت، لما عدت. لن أرتاح حتى أعرف: أين ابني؟ وماذا حصل معه؟". ويضيف: "لو أعرف أنه شهيد سأترحم عليه وأدعو الله أن يصبرنا على فراقه، وإن كانت جثته هناك، أريد أن أدفنه. وإن كان مصابًا نريد أن نعرف.. هذا حقنا".

ويتابع بحرقة: "ابني ذهب مع إخوته، لكن مع شدة التدافع وقت إطلاق الرصاص، تفرق عنهم وأُصيب مع المغاري. وعندما عدت للمكان، ورفعت قطعة قماش بيضاء، أطلقوا الرصاص علي ومنعوني من الاقتراب. لكن ما يعطيني أمل أنني رأيت مروحية تحلق على علو منخفض.. هل كانت تنقل مصابين؟ لا نعرف".

photo_2025-06-05_16-24-53 (5).jpg
 

ويتساءل: "كيف تستدعي المؤسسة الأمريكية الناس، ثم يطلق عليهم جيش الاحتلال النار؟"، متهمًا إياها بتحويل المساعدات إلى "مصيدة واستدراج لأبناء الشعب"، لتصبح المساعدة طُعمًا للموت.

دعوات للمحاسبة

وشدّدت منظمة العفو الدولية على ضرورة رفض خطة المساعدات الإنسانية التي تستخدمها (إسرائيل) سلاحًا، واتهمت المجتمع الدولي وعلى رأسه أمريكا بالسماح باستمرار الكارثة والإبادة. وأكدت أن إطلاق النار على فلسطينيين جياع قرب موقع للمساعدات هو "حدث مروّع" يستدعي تحقيقًا فوريًا ومستقلًا.

وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي، بلغ إجمالي الشهداء 102 شهيد، و522 إصابة، و9 مفقودين منذ بدء العمل بالخطة الأمريكية لتوزيع المساعدات في 27 مايو/ أيار الماضي. ويقول مدير المكتب د. إسماعيل الثوابتة: "ما يُسمى مراكز توزيع مساعدات تحولت إلى مصائد موت جماعي، يُستدرج إليها الناس المنهكون بالجوع، ليُطلق عليهم الرصاص بدمٍ بارد، في مشهد يفضح زيف المشروع الذي يُسوَّق بواجهة (إنسانية)، بينما يُدار أمنيًا من جيش الاحتلال وشركة أمنية أمريكية".

وأوضح أن هذه المراكز تُقام في مناطق خاضعة كليًا للسيطرة العسكرية للاحتلال، وتُدار أمنيًا منها، ما يسقط أي ذريعة للارتباك أو الخطر المفاجئ.

من جهته، قال الباحث في المركز الفلسطيني للمفقودين، غازي المجدلاوي: "في الوقت الذي يُفترض فيه أن تكون المساعدات الإنسانية طوق نجاة، تحولت مراكز التوزيع الأمريكية إلى نقاط استهداف، وأصبحت واحدة من أبرز المشاهد التي تتكرر فيها حالات الفقد والاختفاء القسري".

وأكد لـ"فلسطين" أن المركز يوثق تزايدًا ملحوظًا في عدد حالات الفقد بعد كل استهداف لهذه النقاط، حيث يُفقد الاتصال بالمواطنين دون القدرة على تحديد مصيرهم، في ظل غياب أي التزام من الجهات الفاعلة بتأمين هذه المناطق التي يُفترض أن تكون آمنة. وطالب المجدلاوي المنظمات الدولية بتحمّل مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية، وضمان عدم تحوّل المساعدات إلى أدوات موت ووسائل لتوسيع دوائر الألم.

 

 

المصدر / فلسطين أون لاين
OSZAR »