على أطراف مخيم للنازحين عند دوار 17 شمال غرب مدينة غزة، تستقر خيمة متواضعة تحولت إلى مأوى هش لعائلة الزعانين، بعد أن فقدت كل شيء في حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة.
داخل هذه الخيمة، يعيش الشقيقان رهف (16 عامًا) وفارس (14 عامًا)، وهما ليسا فقط طفلين مصابين بالشلل الدماغي، بل عنوان مأساة مركّبة يعيشها آلاف الأطفال في القطاع، الذين لم تكتفِ الحرب بسرقة طفولتهم، بل حرمتهم من أبسط حقوقهم في الغذاء والعلاج والحياة.
"وزن رهف لا يتجاوز 12 كيلوغرامًا، وفارس 10 كيلوغرامات فقط"، يقول والدهما أيمن الزعانين لصحيفة "فلسطين"، بينما يحاول بصعوبة إخفاء دموعه وهو يحرك جسديهما الهزيلين.
ويضيف: "منذ بداية الحرب، وهم بيتناقصوا قدامي، شوي شوي، مش لأنهم مرضى، بل لأنهم مش لاقيين حليبهم، ولا أكلهم المهروس، ولا حتى كرسي يتحركوا عليه."
الاحتلال الإسرائيلي، منذ 7 أكتوبر ٢٠٢٣، أطلق حربا ضد أهالي قطاع غزة بهدف إبادتهم وتجويعهم وطردهم من القطاع، ولم تقتصر أدوات القتل على الطائرات والمدافع، بل شملت أيضًا سياسات ممنهجة لتجويع السكان وحرمانهم من العلاج والدواء.
وبحسب تقارير صادرة عن وزارة الصحة، فإن أكثر من 15 ألف طفل استشهدوا أو أصيبوا خلال العدوان، بينما حذرت منظمات حقوقية دولية مثل "أنقذوا الأطفال" و"هيومن رايتس ووتش" من أن غزة تشهد "حرب إبادة بطيئة" ضد المدنيين، وأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة هم أكثر من يدفع الثمن.
معاناة مركبة
رهف وفارس كانا من سكان بلدة بيت حانون شمال القطاع، منذ أول يوم للحرب، أجبر الاحتلال العائلة على النزوح من منزلها، ومنذ ذلك الوقت خاضوا رحلة قاسية نزحوا خلالها 15 مرة، بين جباليا وغزة ودير البلح ورفح وخانيونس، ثم عادوا إلى بيت حانون ليجدوها ركامًا بالكامل، لا مأوى، لا خدمات، ولا حتى ما يمكن إنقاذه.
"بيتنا راح، وكل الأماكن اللي رحنا إلها ما كانت مجهزة، لا لحالات خاصة، ولا حتى لعائلات عادية، فكيف لأطفال مثل رهف وفارس يعانون من إصابتهم بالشلل الدماغي واحتياجاتهم أكبر من قدرتي على تلبيتها، أنا صرت عاجز عن كل شي،" يقول والدهم.
في كل محطة نزوح، كانت مأساة جديدة تبدأ. فقدت رهف وفارس فرشاتهم الطبية، وكراسيهم المتحركة، ومع انقطاع الكهرباء، لم يعد هناك طريقة لتشغيل الأجهزة التي كانت تساعدهم على النوم والتنفس بشكل مريح.
الأدوية مقطوعة، والحليب الطبي ممنوع، والبدائل شبه معدومة، العائلة حاولت تعويض طعامهم المهروس بمعكرونة مطبوخة جيدًا أو العدس، لكن الأسعار باهظة، والوجبات التي كانت تُقدم كل ساعتين أصبحت لا تتجاوز مرة كل 10 ساعات.
وفقًا لبيانات وزارة التنمية الاجتماعية في غزة، فإن هناك أكثر من 6,000- 7,000 طفل مصاب بالشلل الدماغي يعيشون في القطاع، كثير منهم بحاجة إلى رعاية طبية متخصصة وأجهزة مساعدة بشكل يومي.
إلا أن حصار الاحتلال الإسرائيلي ومنع إدخال الأدوات الطبية والأدوية، ضاعف معاناة هؤلاء الأطفال وذويهم، كما أن جهات حكومية ومحلية لم تعد تملك الإمكانيات، والمنظمات الدولية ممنوعة من الوصول أو إرسال الدعم.
"رهف بتصرخ كل ما تسمع صوت قصف، وفارس جسمه صار يرتجف من الخوف كل ما نشوف نور أحمر في السماء، ما عادوا يقدروا يتحملوا نزوح جديد، لكن مافي أمان ولا طمأنينة. حياتهم انقلبت من مرض يحتاج رعاية، إلى موت بطيء اسمه المجاعة والحرب،" يتحدث والدهم بمرارة.
ويتابع:" أما عن الكرسي المتحرك الذي كان يساعد فارس على التنقل، فقد تدمر في رحلة النزوح الأخيرة. الكراسي البديلة غير متوفرة، والاحتلال يمنع دخولها عبر المعابر المغلقة، حتى تلك التي كانت تُرسل خصيصًا للأطفال ذوي الإعاقات، غير ملائمة لهم".
ويوضح أن المنظمات الإنسانية العالمية العاملة في القطاع عاجزة، والجهات الفلسطينية تصرخ من شدة الضغط، فيما تتزايد أعداد الضحايا يومًا بعد يوم.
رهف وفارس هما نموذج فقط من آلاف الحالات التي تموت ببطء خلف أسوار التجاهل والعجز الدولي، يقول الزعانين "أنا أب، مش قادر أطعمي أولادي ولا أحميهم. بشوفهم بنهاروا وبذوبوا قدامي، وما بقدر أعمل شي، كل يوم بمر عليهم هو معجزة.. بس المعجزات في غزة عم تخلص."