فلسطين أون لاين

يتمسك بالعودة ويتحدى مخططات التهجير..

تقرير من هربيا إلى غزَّة... لاجئ سبعينيّ يرفض "نكبةً جديدةً"

...
من هربيا إلى غزَّة... لاجئ سبعينيّ يرفض "نكبةً جديدةً"
غزة/ أدهم الشريف:

في إحدى زوايا مخيم الشاطئ يجلس فاروق أبو عميرة، رجل سبعيني ملامحه محفورة بتجاعيد الألم والصبر، يُحاكي الزمان والذكريات المتكررة. يتأمل وجوه الأطفال من حوله وهم يلعبون بين الأزقة الضيقة، ويحدّق في الركام والأنقاض التي تسد الأفق، وكأنّه يبحث عن ظلِّ بيته الذي فقده مرتيْن، أولاهما في قرية هربيا إبَّان نكبة 1948، والثانية في المخيم المكتظ باللاجئين غربي مدينة غزة، حيث دمرته مقاتلات جيش الاحتلال خلال حرب الإبادة.

وعندما يضيق صدره من قسوة المشاهد التي حفرتها الحرب في ذاكرته، يتوجه مسرعًا للبحر. تحت ظل خيمة مطلة على الساحل يجلس أبو عميرة ساعات طويلة وهو يحيك شباك الصيد ويقصُّ لمن حوله من أبنائه وجيرانه الكثير من الحكايات التي ورثها عن والده الراحل رمضان أبو عميرة.

"حين هُجرت عائلتي خلال النكبة كنت طفلاً صغيرًا، لا يتجاوز عمري بضعة أشهر." يقول أبو عميرة الذي يساوي عمره عمر النكبة الفلسطينية، 77 سنة. "علمت عندما كبرت أن عائلتي أجبرت على ترك هربيا تحت النار وبسبب جرائم العصابات الصهيونية."

يضيف لصحيفة "فلسطين": "كانت غزة المحطة الأولى لعائلتي، ومنذ ذلك الحين صرنا جميعًا لاجئين فيها."

ولد أبو عميرة عام 1948 في قرية هربيا، وهي القرية القريبة جدًا من الحدود الشمالية لقطاع غزة، وقد احتلتها "العصابات الصهيونية" خلال النكبة. على وقع ذلك، هُجّرت عائلته إلى غزة واستقرت في مخيم الشاطئ حيث نشأ وتزوج وأنجب 15 من الأبناء، أكبرهم يبلغ (40 عامًا)، وأصغرهم (25 عامًا).

عمل هذا الرجل في صيد الأسماك منذ أن كان طفلاً حتى أصبح طاعنًا في السن، وأصر على قضاء حياته في مخيم لاجئين حتى لا ينسى تاريخ الآباء والأجداد وحكايات اللجوء ومآسيه.

يُتابع حديثه: "منذ أن وعيت على الدنيا وأنا أسمع عن حق العودة. كنت أحلم بيوم أعود فيه إلى هربيا، أمشي بين زيتونها، وألمس ترابها. لم أتخيل أنني سأعيش نكبة أخرى أشد قسوة ونحن في غزة هذه المرة."

في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بدأت (إسرائيل) حربًا دموية على غزة، مارس خلالها جيش الاحتلال ولا يزال الإبادة الجماعية ضد المدنيين، واستهدف البنى التحتية والأحياء السكنية، والمستشفيات، حتى مخيمات النزوح.

وكانت النتيجة، استشهاد أكثر من 50 ألف مواطن معظمهم من النساء والأطفال، وفقدان آثار أزيَّد من 11 ألف آخرين تحت ركام وأنقاض المنازل المدمرة، وسحق أحياء ومدن كاملة وترك سكانها بلا مأوى ولا أمان، فضلاً عن مأساة النزوح القسري المتكرر.

"قصفوا بيتي في المخيم، كنا نعيش في أمان قبل الحرب، والآن لم يعد هناك مكان آمن في غزة." أضاف أبو عميرة وهو يحدق من بعيد بالركام المتناثر.

ورغم الخراب والمآسي التي خلفتها حرب الإبادة، يرفض هذا الرجل مغادرة غزة، رغم الإغراءات والضغوط التي يتحدث عن قادة الاحتلال السياسيين والعسكريين. "يريدون منا أن نخرج إلى سيناء، أو أي مكان في الدنيا، يقتلونا وفي نفس الوقت يحاولون إغرائنا. لكن أنا أقول: كرامتي أهم. إذا خرجنا الآن، ستكرر مأساة 1948. لن أقبل بنكبة جديدة."

يُحيط به عدد من أحفاده وهو يتأمل الأفق البعيد، يحكي لهم عن قريته المهجرة، وزيتونتها وبحرها وشجرة الجميز القديمة، وعن عشرات الدونمات التي كان والده يملكها ولديه ما يثبت ذلك من أوراق رسمية، يزرع فيهم حب الأرض.

عند مغيب الشمس، تتعالى أصوات المقاتلات الحربية من جديد، فيلجأ أبو عميرة إلى ما تبقى له من مأوى مدمر، محيطًا بأحفاده الصغار خشية عليهم من أي مكروه، لعلمه المسبق ببطش جيش الاحتلال وجرأته على إزهاق الأرواح بلا رحمة.

وبينما يترنح العالم بين صمتٍ دولي مطبق وخطابات خاوية، يبقى هذا المسن مثالاً للثبات، شاهداً حيًا على جُرحٍ متجدد، ونكبة مستمرة. "لن أرحل، ولن أنسى حق العودة إلى هربيا، وإن مُتّ هنا سأدفن في غزة. ففيها بيتي وأرضي، وهنا سأبقى."

المصدر / فلسطين أون لاين
OSZAR »