﴿*اقْتُلُوا يُوسُفَ﴾*
{أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} (يوسف: 9)
محرقة غزة لا تهدأ، ما يقرب من سنتين من الألم والصمود يُعرضه العالم عبر شاشاته، والقلوب الميتة لا تتحرك، خاصة في محيطٍ عربيٍّ وإسلاميٍّ يُغمض عينيه عن الحق، ويغلق أذنيه عن أنين الجراح. غزة التي تقاوم، كيوسف عليه السلام، تُلقى في بئر الظلم والخيانة، ويُترك أهلها للذبح بصمت قاتل. المؤسسات الرسمية تنأى بنفسها، وكأنها تقول بلسان الحال: "اقتُلوا غزة، ونحن لا نسمع ولا نرى ولا نتكلم."
لكن غزة لا تستسلم، بل تقاوم، فتُربك مواقفهم، وتُعرّي صمتهم، وتُحرج سكونهم، وتفضح خذلانهم أمام شعوبهم والعالم. الغطاء الجوي لحماية القتلة، العجز في الإغاثة، والسكوت السياسي، كلها دلائل على عمق الخزي، وضخامة التواطؤ، واتساع دائرة الخيانة. إن غزة، التي تسير على الجمر ولا تحيد، جعلت من صبرها نارًا تحرق ورقة التبرير، وتسقط أوراق التوت عن الجميع.
ويُعاد المشهد كما وصفه النبي ﷺ:
"تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها..."،
وها نحن نشهد الغثائية في أوضح صورها: كثرةٌ بلا وزن، وحشود بلا أثر، وقلوب مُنهكة بالوهن، ومرعوبة من الموت، عاشقةٍ للحياة ولو كانت تحت الحذاء. إنه المشهد ذاته الذي أخبرنا به المصطفى: "حب الدنيا وكراهية الموت."
لكن رغم زلزلة الألم، تبقى قصة يوسف عليه السلام حية، حاملةً بشائر النجاة، ومفاتيح الرجاء. كما نجا يوسف من البئر والسجن والمحنة، فإن غزة ستنجو من الحصار والمحرقة والمؤامرة. وكما تحققت رؤيا يوسف رغم المكائد، ستتحقق رؤية غزة رغم الذبح اليومي. ستنهض، وتنتصر، وتقول لإخوتها الذين أسلموها للموت:
{لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} (يوسف: 92)
محرقة غزة تسير على مدار الساعة، سنتان من الأسى والزلزال، يُبث حيًّا على مرأى ومسمع العالم، وعبر حدود أمةٍ مسلمةٍ لا تُحرّك ساكنًا. أما على المستوى الرسمي، فالمشهد أكثر مرارة؛ لا حديث عن مواقف، ولا حتى عن الحد الأدنى من الكرامة. غزة تغرّد خارج سرب علوّ الصهيونية وإفسادها، فتُواجه بالخذلان، كما وُوجه يوسف عليه السلام بمكر إخوته:
{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} (يوسف: 9)،
وكأن المؤسسة الرسمية في عالمنا العربي تقول: "أبيدوا غزة وانهوا أمرها، ونحن سنُمارس صمتنا المريب."
لكن المشكلة أن غزة لا تموت، بل تأبى أن تُذبح سريعًا. وقفت، وصمدت، وقاتلت، فطال زمن ذبحها، وزاد حرجهم، وظهر خزيهم. غزة تُذبح من الوريد إلى الوريد، على مرأى الإخوة، دون أن تُحرّك قلوبهم أو ضمائرهم أو حتى شفاههم، بل بقي الغطاء الجوي قائمًا لحماية القتلة، والعجز عن إيصال حتى لقمة الخبز أو شربة ماء أو قافلة دواء.
أما على المستوى السياسي، فلا طرد لسفير، ولا قطع لعلاقات، ولا وقف تطبيع، بل الأسوأ ما يدور في الغرف المغلقة، من تحريض على إنهاء "حالة غزة"، كما أوردت بعض التسريبات والوثائق. تتردّد همساتهم:
{هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} (الشعراء: 54)
لقد تماهى المشهد مع حديث النبي ﷺ حرفًا حرفًا:
"تتداعى عليكم الأمم..."،
وها نحن كغُثاء السيل، بلا مهابة، ولا وزن، بعد أن قُذِف الوهن في قلوبنا، وأُنتزعت المهابة من صدور أعدائنا. تلك هي صورة أمتنا اليوم؛ لا نفع في كثرَتِها، ولا أثر في ضجيجها، إلا ما رحم ربي.
ورغم هذا الخراب، تبقى غزة تعلّق قلبها بالوعد، كما علّق يوسف قلبه برؤيةٍ من ربه. ستتحقق الرؤية كما تحققت رؤيا يوسف:
{وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} (يوسف: 21)،
{هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ} (يوسف: 100)
وستُكرم غزة كما أُكرم يوسف، وستصفح كما صفح يوسف، وستقول لإخوتها الذين تخلّوا عنها:
{لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} (يوسف: 92)
فسبحان من يُعزّ من يشاء ويُذلّ من يشاء.
{إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} (الأحزاب: 10)
{هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (الأحزاب: 11)
{حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ؟}
أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.